عاجل
كتاب المنبر الحر

الإعلام الجديد ومفهوم التأثير… سلاح ذو حدين

المنبر الحر – بقلم الكاتب محمد مصطفى العضايلة – رئيس الهيئة العربية للبث الفضائي والرقمي

في زمن التحولات الرقمية السريعة، أصبح الإعلام الجديد المتمثل في منصات التواصل الاجتماعي، الأداة الأقرب والأسرع للوصول إلى الجمهور المستهدف؛ هذا ولم تعد هذه المنصات حكرًا على فئة الشباب كما كانت في بداياتها، بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياة مختلف الفئات العمرية، حيث أصبحت تُشكل مصدرًا رئيسيًا للمعلومة، وفضاءً للتفاعل والتأثير، كما ساهمت وبشكل كبير في صُنع وصياغة الرأي العام.

تُعد قوة هذه المنصات في سهولة الوصول والانتشار وهو ما يشكل أبرز ملامح التأثير في الإعلام الجديد، فهذه المنصات لا تخضع للقيود التقليدية التي تحكم وسائل الإعلام التقليدية، مثل الرقابة أو الجداول الزمنية أو حتى الاعتبارات التحريرية الصارمة؛ فبضغطة زر، يمكن لأي شخص أن يكون “ناشرًا”، وأن يصل إلى جمهور قد يتجاوز أعداد مشاهدي قناة فضائية أو قرّاء صحيفة كبرى؛ هذه القوة لا تأتي دون ثمن؛ فغياب المهنية الصحفية، والموضوعية، والتحقق من صحة المعلومات يفتح الباب أمام سيلٍ من الشائعات والمعلومات المضللة والتحريض، وهو ما يشكل تهديدًا حقيقيًا ليس فقط للفرد المتلقي، بل للمجتمعات والدول على حد سواء. 

في ظل هذا المشهد الضبابي، يصبح من السهل جدًا أن تنتشر الأكاذيب أسرع من الحقائق، وأن تُدار حملات تضليل من جهات لها أهداف خفية أو أجندات سياسية واقتصادية أو حتى إيديولوجية؛ وهنا تبرز المفارقة منصات تملك تأثيرًا أقوى من أي وقت مضى، لكنها تخضع لمعايير أقل من حيث المصداقية والمسؤولية؛ هذا الواقع يضع أمامنا تحديًا كبيرًا، يتمثل في كيفية تنظيم هذا الفضاء الرقمي دون المساس بحرية التعبير، وكيفية رفع مستوى الوعي لدى المستخدم، ليكون متلقيًا ناقدًا، لا مستهلكًا سلبيًا لكل ما يُعرض عليه.

هنا في الأردن، نعيش هذا التحول الإعلامي بوضوح؛ فمصادر المعلومات التقليدية تراجعت لحساب المنصات الرقمية، ولم يعد كثير من الناس ينتظرون نشرات الأخبار أو الصحف لمعرفة ما يجري، بل يفتحون هواتفهم، ويتابعون ما يُنشر لحظة بلحظة؛ هذا التسارع في نقل الأخبار، صاحبه تسارع موازٍ في انتشار الشائعات، التي تتخذ أشكالًا متعددة، من الأخبار المفبركة، إلى مقاطع الفيديو المضللة، مرورًا بالتغريدات أو المنشورات التي تُبنى على العاطفة لا على الوقائع؛ وبات المجتمع الأردني، مثل غيره من المجتمعات، معرضًا يوميًا لموجات من المعلومات المجهولة المصدر، أو تلك المغلوطة والموجهة؛ وللأسف، فإن بعض هذه الشائعات تُحدث أثرًا بالغًا في الرأي العام، بل قد تؤثر أحيانًا على الاستقرار الاجتماعي أو الاقتصادي، وتضعف الثقة في مؤسسات الدولة.

وفي السياق ذاته، تنبهت الحكومة الأردنية إلى خطورة انفلات المعلومة في الفضاء الرقمي، وسعت إلى بناء وعي مجتمعي متين يواكب التحولات الإعلامية المتسارعة؛ ومن خلال وزارة الاتصال الحكومي، تم تنفيذ جهود كبيرة وفاعلة، شملت تنظيم العديد من المنتديات والندوات المتخصصة، التي ركزت على أهمية التربية الإعلامية والمعلوماتية، والتحقق من صحة الأخبار، ومكافحة الشائعات؛ كما أطلقت الوزارة برامج تدريبية وتوعوية مكثفة استهدفت الشباب، وطلبة المدارس والجامعات، والعاملين في القطاعات الإعلامية والتربوية، بهدف تنمية مهارات التفكير النقدي، وتعزيز ثقافة التحقق، والمساهمة في خلق بيئة إعلامية أكثر وعيًا ومهنية؛ حيث تأتي هذه الجهود ضمن رؤية وطنية شاملة تسعى إلى تحصين المجتمع من مخاطر الإعلام غير المنضبط، وتعزيز قدرة الأفراد على التفاعل الواعي والمسؤول مع المحتوى الرقمي.

وضمن جهود العمل العربي المشترك، برزت الحاجة إلى مواجهة هذا الواقع بوسائل علمية وتربوية، تُمكِّن المتلقي من التمييز بين المعلومة الصحيحة والمضللة، وتُرسّخ لديه أدوات النقد والتحليل؛ حيث تبنّت الامانة العامة لجامعة الدول العربية (قطاع الإعلام والاتصال) ومن خلال مجلس وزراء الإعلام العرب عددًا من المشاريع والمبادرات المرتبطة بالتربية الإعلامية والمعلوماتية، إدراكًا منها لأهمية بناء جدار من المناعة الفكرية والمعرفية في مواجهة الفوضى المعلوماتية؛ وقد تم إقرار العديد من المبادرات الفاعلة التي تهدف إدماج التربية الإعلامية والمعلوماتية في المناهج التعليمية ونشر حملات توعوية حول خطورة المعلومات المغلوطة والشائعات؛ مثل هذه الجهود، سواء على المستوى العربي أو المحلي، تشكل خطوة مهمة نحو حماية المتلقي العربي، وبناء جيل واعٍ لا يكتفي بتلقي المعلومة، بل يفكر فيها وينقدها، ويميز بين الرأي والحقيقة، وبين الخبر والتحريض.

فالإعلام الجديد، بما يحمله من فرص هائلة في التعبير والمشاركة، يحتاج إلى إعادة تعريف لمسؤولياته، سواء من قبل الأفراد أو المؤسسات أو حتى الحكومات. فكما هو قادر على أن يكون أداة للتنوير والتغيير الإيجابي، فهو كذلك قد يتحول – في ظل الفوضى المعلوماتية – إلى أداة للفوضى والتأثير السلبي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !!